قالوا في المثل المشهور: ” إِذَا أتاكَ أحَدُ الخَصْمَيْنِ وَقَدْ فقئَتْ عَيْنُهُ فَلاَ تَقْضِ لَهُ حَتَّى يَأتِيَكَ خَصْمُهُ فَلَعَلَّهُ قَدْ فُقِئَتْ عَيْنَاهُ جَمِيعَا “. وهذا المثل يعطي حكم بديهي، وهو إن كنت قاضيا أو حكما لا ينبغي أن تحكم إلا بعد أن تكتمل لديك الصورة، والصورة لن تكتمل إلا إذا تم سماع الطرفين أو الأطراف، وإذا تطلب الأمر سماع الشهود، ولكن أحيانا ننخدع من طريقة العرض، أو من ظهور الصورة لأول وهلة وهي صارخة بينة الظلم فننطلق بالحكم بناء على معلومات ناقصة، وغير مستوفاة، ودون سماع الطرف الآخر الذي قد يقلب الأمر رأسا على عقب، ولذلك كان الاختبار صعبا في قصة الخصم مع داود عليه السلام التي وردت في سورة (ص) التي نقرأها ونحاول أن نتدبرها ونسأل الله أن يرزقنا من فيضها، وأن نستفسد مما نفهمه من دروسها ، ونقتبس أقل من قطرة بحر أو محيط إعجازها القرآني.
الآيات : بسم الله الرحمن الرحيم ” ۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ (21) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ (22) إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩ (24) فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ “ صدق الله العظيم
القصة
المشهد في مكان واحد وكان لسيدنا داود عليه السلام، وهو في محرابه المغلق عليه، والمحاط بسور حاجب عن الخارج، يخلو فيه للعبادة، قائما لله بصلاته، متجها إليه بدعائه، ويقضي بين الناس بالحق والعدل حينما تعرض عليه التنازعات والخصومات التي تكون بين بعض الناس.
وعرف المحراب في زماننا بأنه القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم.
ولكنه عرف قديمًا بمعنى أشمل، ففي زمن زكريا النبي عليه السلام الذي تكفل بمريم (وكفلها زكريا) وقد كان هو وحده الذي يدخل عليها المحراب الذي تخلو فيه للعبادة والمناجاة لربها والعجيب أنه كلما دخل عليها وجد عندها رزقا، فيتعجب ويندهش ويقول لها: ” لها من أين لكي بهذا الرزق وأنت هنا منعزلة عن الناس ” فكانت تقول: ” هو من عند الله سبحانه وتعالى ” فهو الرب الخالق الرازق المحي المميت.
وهو أيضًا الذي استجاب الله فيه لدعاء سيدنا زكريا عليه السلام لربه ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)﴾.
فنادته الملائكة وهو يصلي فيه: “فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ”
لقد كان المحراب منطلقا للدعوة إلى ذكر الله وتعظيمه وتسبيحه جل شأنه وعظم سلطانه: ” َخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا “.
ولكن هنا إضافة ظهرت في قصة الخصم مع داود عليه السلام وهي أن المحراب كان مكانا للقضاء بين المتخاصمين والمتنازعين والحكم بينهم.
فإذا كان هذا هو محراب داود، وهذه هي وظائفه، وتلك هي قدسيته ومنعته التي لا يتصور معها أن يتسلق أو يقتحم أسواره أحد، أو أن يتم الولوج إليه فجأة من غير باب، أو بباب دون إذن بالدخول، ولكن ما حدث لم يكن في الحسبان.
قال تعالى: ” وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ “
نقف هنا عند كلمة الخصم والضمير (واو الجماعة) العائد عليها بالجمع وهي من ضمن الألفاظ التي تستعمل للمفرد والمثنى والجمع مثلها في القرآن الكريم: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، وإنا رسول رب العالمين ، فعاد الضمير بالجمع بناء على اللفظ حتى وإن قصد بخهخ الواحد.
قال تعالى: “إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ “
واستعمال الظرف (إذ) تحديدا لأنه يدل على المفاجأة في الدخول الذي لا يتخيل معه قدوم أحد، ولأنه من غير المتوقع، فكان باعثا على الفزع من المفاجأة، فلا يتصور دحول أحد على هذه الصورة إلا لإحداث أمر مفزع مروع.
على أي حال قد تم الدخول من قبل الخصمين – على فرض أنه قصد بهما المثنى – إلى المحراب عبر التسلق على السور وفوجئ نبي الله دواد بهما ماثلان أمامه، أذ تسوروا المحراب فأصابه الذعر والفزع الذي نعلم منه حدوث خفقان القلب وسرعة نبضه والارتجاف …. وغيرها من الأعراض، وكيف لا والفزع يذكر في القرآن الكريم في مواطن المواجهة المروعة لأهوال يوم القيامة.
فالهيئة التي دخلا عليه بها، أصابته باضطراب، ربما ينتج عنه حالة تؤثر في الحكم؛ ينتج عنها ذنبا يتطلب بعده الاستغفار، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
الخصم قابلا فزعه بنهيه عن مجرد الخوف (الذي هو أدنى من الفزع بالتأكيد) وأخبراه: ” أنهما خصمان، والخصمان بالتأكيد جاءا للاحتكام إليه في محرابه، فلا تخف، وبإيجاز ودن مقدمات شرع في العرض:
“خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ …”
من الأمور التي نفهمها هنا:
- قال: خصمان بحذف المبتدأ والتقدير: نحن خصمان بترتيب سريع متلاحق يليق بحالة الاختبار والابتلاء التي قدرها الله سبحانه وتعالى، (ففزع منهم – لا تخف – خصمان).
- البغي: أصله الطلب وابتغى الشيء طلبه والبغي قد يكون بحق أو بغير الحق وقالوا المعنى هنا مجاوزة الحد وأقرأ أن المقصود هنا الظلم بدليل الجواب: لقد ظلمك
- بعضنا على بعض: البعض الجزء من الشيء ويطلق على الواحد فأكثر.
- احكم بيننا بالحق، لا تشطط، اهدنا إلى سواء الصراط، أمران بينهما نهي، كله تأكيد لطلب الحصول على الحكم العادل والجواب الصائب والإرشاد إلى الطريق المستقيم.
- لا تشطط: النهي عن الشطط والشطط الذي في معانيه التجاوز وقد ذكر في سورة الجن: ” وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سفهينا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا “
قال تعالى: ” إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ)
بدأ الخصم الأول في عرض مسألة الخصومة وفي حضور الخصم الآخر: ” أخي يملك تسعا وتسعين نعجة وأملك نعجة واحدة فقط فطلب مني أن يكفل نعجتي لتكون في ضمانته والتزامه ويضمها إلى نعاجه ”
ومعنى عزني: ” شدد علي وغلبني في خطابه القوي لي، ويقال العزيز القوي الغالب
ونلحظ أنه تم طرح القضية في صورة صارخة، وفي عرض مثير، ومن هنا انطلق سيدنا داود عليه السلام بالحكم المباشر:
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ…. ﴾
إن الانطلاق بالحكم دون سماع الطرف الآخر أو بقية الأطراف – حتى لو كان بغير قصد أو بسبب سهو – لا ينتج عنه الحكم الصحيح، ولا يترب عليه القضاء العادل بالحق، ولا تكون منه الهداية والإرشاد إلى سواء الصراط، ولكن قد يشطط ناحية طرف على حساب طرف آخر لم يقدم دفاعاته، ولم يتم استيضاح الأمر منه، فلربما كانت النية للطرف الثاني صادقة، والهدف نبيلا، أو العاقبة تحمل بين طياتها الصالح العام.
حقا لقد كان الابتلاء عظيما والاختبار صعبا، والامتحان عسيرا، ومن هنا ترجح لديه أو تأكد أنه أذنب وأنه بحاجة إلى الاستغفار والإنابة والرجوع إلى الله الحق جزاء تسرعه، فخر راكعا ساجدا مصليا له سبحانه وتعالى، وما أعظمها من توبة، يسقط المرء فيها راكعا، وما أحسنه من رجوع إلى الحق في التو واللحظة، وعدم التمادي في الخطأ أو تبريره من أجل الانتصار للرأي.
(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩)
اللهم اجعلنا من المستغفرين المنيبين إليه إتابة تكون سبيلاً إلى الهداية والرشاد.
( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ )
ممتاز بارك الله فيك وزادك علمك ونفع بعلمك المسلمين .