“وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى”، جملة قالها أسد الصحراء، نعم لابد من تردد هذا اللقب علي سمعنا ولو لمرة واحدة، في قرية تسمى جنزور في منطقة الجبل الأخضر بليبيا، طفل تركه أبوه صغيراً بعدما انتقل الي جوار الله وهو في طريقه لإتمام مناسك الحج، وكفله صديق والده وقام بتربيته وإدخاله مدرسة القرآن الكريم بالقرية، حيث كان طفل لديه نباهة في العقل، متانة في القلب، وحب للحرية والدعوة، اشتد ساعده وحارب ضد الإيطاليون الذين احتلوا البلاد حيث وجد نفسه من معلم للقرآن الكريم إلى مقاتل في سبيل الله وفي سبيل تحرير بلاده، ليصنع اسم تاريخي من خلال رحلته، اسم له تفاصيل ذو ملحمة تاريخية، ليضع اسم ” عمر المختار” بصماته في كتب تدرس وأفلام تشاهد لتجسيد شخصيته العظيمة.
ميلاد ونشأة أسد الصحراء.
هو عُمر المُختار محمد فرحات ابريدان، ولد في 20 من أغسطس لعام 1858م، بزاوية جنزور في منطقة “الجبل الأخضر” بليبيا، لم يعايش والده كثيراً حيث توفي والده وهو في طريقه لأداء مناسك الحج برفقة صديقه “أحمد الغرياني”، وتوجه صديق والده إلى شيخ “زاوية جنزور” وهو شقيقه وأخبره وأدلي بموافقته في رعايته، وقام أحمد الغرياني بالرعاية الكاملة والتربية السليمة له وألحقه بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم بالزاوية، بعد فترة التحق عمر المختار بـ” المعهد الجغبوبي” لمدة ثماني سنوات، كان المعهد مقر للحركة السنوسية؛ وهي حركة إصلاحية (إدارية وعسكرية) ذات طابع إسلامي توجد في ليبيا والسودان تأسست في مكة عام 1837م وتأسست في ليبيا عام 1843م في مدينة البيضاء.
حياته في الجغبوبي.
أخذ يُنهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، وتتلمذ فيهم على يد “السيد الزروالي المغربي والسيد الجواني” وغيرهم ممن شهدوا له بالنباهة وحسن الخلق، حيث يقوم المعهد بإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين لحمل رسالة الإسلام، ثم إرسالهم إلى مواطن القبائل في ليبيا وأفريقيا لتعليم الناس مبادئ الإسلام وتعاليمه، لم يعرف عنه زملاؤه من تأجيل لعمل فكان متفانياً في طلب العلم، اشتد ساعده وأصبح مكتسباً من العلوم الدينية الكثير، كذلك العلوم الدنيوية ما تيسر له، واكنت خبرته كبيرة في شئون البيئة المحيطة به، وتعلم وسائل فض الخصومات البدوية، وكان خبير بمسالك الصحراء والطرق التي يجتاحها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الداخل في “الجغبوب والكفرة”، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها المختلفة، والأدواء التي تصيب الماشية وطرق علاجها المختلفة، وكان يعرف أيضاً سمة كل قبيلة؛ التي توضع على الإبل لوضوح ملكيتها لأصحابها.
الأسد المفترس.
قرر محمد المهدي السنوسي- ثاني زعماء السنوسية- أخذ عمر المختار معه سنة 1895م برحلة معه من “الجغبوب” إلى “الكُفرة” في جنوب شرق الصحراء الليبية، يليها في رحلة من الكُفرة إلى منطقة “قرو” في غرب السودان، وعُيِّن هناك شيخاً لزاوية “عين كلك”، وفي الطريق إلى السودان وبينما قافلته تعبر الصحراء، هاجم أسد القافلة واُقترح تقديم إحدي الإبل له لاتّقاء شره، ردد عمر على أسماعهم والله إنها لعلامة ذل وهوان، والله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا، ثم خرج الأسد وقتله عمر وسلخ جلده وعلقه لتراه القوافل الأخرى، وعند ذكر هذه القصة كان يقول وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى، وظل في السودان سنواتٍ طويلة نائبا عن المهدي السنوسي الذي أثني عليه وقال “لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم” ثم عُيِّن عام 1897م شيخاً لزاوية القصور بمنطقة الجبل الأخضر في برقة، وكانت تقطنها قبيلة العبيد التي تُعَرِّف بالشدة، واكتسب لقب سيدي عمر هناك لعلاقته الوثيقة بالسنوسيّين.
الفرنسيون والحركة السنوسية.
بعدما احتل الفرنسيون تشاد عام 1900م، ناصبوا الحركة السنوسية وحاربوها، وكان عمر ممَّن اُختبروا لقيادة الكتائب وشارك في الدعوة في تشاد، وخلال قتاله في تشاد أُصِيبُت الإبل ووُكِّل بعلاجهم وأمر بأخذهم إلى عين كلك لأن ماءها جيد وتعافت، وبعد ذلك توفي محمد المهدي السنوسي عام 1902م، واستدعته القيادة السنوسية للعودة إلى برقة، وعُيِّن للمرة الثانية شيخاً لزاوية القصور وهنأه العثمانيون على جلب الاستقرار إليها، وظل فيها لمدة ثماني سنوات، وهناك قاتل جيوش الانتداب البريطاني على الحدود المصرية الليبية.
محاربة الطليان.
في أكتوبر 1911، حيث الحرب الإيطالية التركية، وصلت فرقة بحرية بقيادة “الأدميرال لويجي فارفيلي” إلى شواطئ ليبيا، وخيرهم بتسليم منطقة خاضعة للسيطرة التركية العثمانية بتسليم أراضيها أو حدوث دمار لمدن طرابلس وبنغازي، وانسحب الأتراك إلى الريف عوضاً عن الاستسلام، وقصف الإيطاليون المدن لثلاثة أيام، وكانت بداية لسلسلة من المعارك بين الإستعمار الإيطالي والمعارضة الليبية المسلحة في برقة بليبيا بقيادة عمر المختار لمدة 22 عامًا.
بين هذه الصراعات الكبيرة والتي استمرت وجد عمر نفسه تحول من مُعلّم للقرآن إلى مُجاهد يُقاتل في سبيل دينه وبلاده لدفع الإحتلال عنها، ومنها اكتسب تكتيكات الحروب الصحراوية أثناء قتال الفرنسيين في تشاد، واِستغل معرفته بالصحراء ودروبها لمجابهة الجنود الإيطاليين، وأخذ يقود رجاله في حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، وعمل المجاهدون الليبيّون على قطع طرق المواصلات والإمدادات على الجيش الإيطالي.
في عام 1922م قام شيخ وقائد الحركة السنوسية بعقد صلحاً مع إيطاليا، وهنا غضب عمر وباقي شيوخ القبائل، وبايعوه على ولاية الحركة ومحاربة الطليان فقط، ووافق إدريس ورحل لمصر مدعياً المرض وتبين لعمر عكس ذلك عند زيارته، ومع اندلاع الحرب مجدداً تولى عمر الحركة الجهادية في منطقة “الجبل الأخضر” وبات يجمع السلاح والمال ويحرّض القبائل ويشن الهجمات على الطليان في برقة.
المختار والأسر.
في أكتوبر عام 1930م ،اِشتبك الطليان مع المجاهدين، واختفي المختار فيها وعثروا على نظارته وجواده الذي ثبت لهم أنه على قيد الحياة، فأرسلوا خطاب متضمناً فيه بالقضاء عليه وفيه مقولة «لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتي برأسه» وفي 11 سبتمبر لعام 1931م توجه عمر لزيارة رويفع بن ثابت بمدينة صنعاء، وشاهدتهم وحدة استطلاع إيطاليَّة، فتم تحريك فصائل لمطاردتهم، وآثر اشتباك في أحد الوديان جرح حصان المختار فسقط على الأرض، وتعرف عليه أحد الجنود المرتزقة الليبيين.
يقول المجاهد “عبد الجليل المنفي” الذي شهد على اللحظة التي أُسر فيها المختار «كنَّا غرب منطقة سلنطة، هاجمنا الأعداء الخيَّالة وقُتل حصان سيدي عمر المختار، فقدَّم له ابن اخيه المجاهد حمد محمد المختار حصانه وعندما همَّ بركوبه قُتل أيضًا وهجم الأعداء عليه، ورآه أحد المجندين العرب وهو مجاهد سابق له دوره. ذُهل واختلط عليه الأمر وعزَّ عليه أن يُقبض على عمر المختار فقال: “يا سيدي عمر.. يا سيدي عمر!!” فعرفه الأعداء وقبضوا عليه. وردَّ عمر المختار على العميل العربي الذي ذكر اسمه واسمه عبد الله بقوله: “عطك الشر وابليك بالزر”»
إعدام المختار.
عامل الإيطاليون الزعيم الأصلي البطل على أنه جائزة،وحُوكم المختار في 14 سبتمبر 1931م، وحُكم عليه بالإعدام علنًا، وهنا كانت بعض تساؤلات المؤرخون والعلماء عما إذا كانت محاكمته عادلة أو نزيهة. وعند سؤاله عما إذا كان يرغب في قول أي كلمات أخيرة، أجاب مختار بجملة قرآنية “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وفي 16 سبتمبر 1931م، تم شنق المختار أمام أتباعه في معسكر الاعتقال عن عمر 73 عاماً.
رمزية المختار وإرثه.
- وجه مختار يظهر على ورقة العشرة دنانير الليبية.
- صُورت سنواته الأخيرة في فيلم أسد الصحراء (1981)، بطولة أنتوني كوين و أوليفر ريد وإيرين باباس. كانت مبنية على كفاح المختار.
- في عام 2009، ارتدى الزعيم الليبي معمر القذافي صورة المختار في الأسر الإيطالية على صدره أثناء زيارة رسمية إلى روما، وأحضر معه ابن المختار المسن أثناء الزيارة.
- مع اندلاع الحرب الأهلية الليبية في 17 فبراير 2011، أصبح عمر المختار مرة أخرى رمزًا لليبيا موحدة وحرة وتم تصوير صورته على أعلام وملصقات مختلفة لحركة ليبيا الحرة. أطلقت قوات المتمردين على أحد كتائبها اسم “لواء عمر المختار”.
- سمي شارع بإسم المختار في القاهرة، وفي منطقة الخليج العربي بالدوحة بقطر.
قد يُعجبك أيضًا:
- قاسم أمين وأفكار التنوير وتحرير المرأة
- كمال أتاتورك: الرجل الذي عمل على علمنة الدولة التركية
- أسباب جعلت أسطورة الكنغ فو بروسلي بطلاً خارقًا
آخر التعليقات
نزهة حسن علي شرف | قصة داوود عليه السلام مع نبأ الخصم
كرتون | أفضل 10 مسلسلات أنمي في التاريخ حسب آخر استفتاءٍ لنا
مصطفي | ليوناردو دافنشي: أب الفن و الهندسة المعمارية